اللعب عند الأطفال: مقاربة سيكولوجية.مصطفى مزياني

اللعب عند الأطفال: مقاربة سيكولوجية

مصطفى مزياني
أستاذ التعليم الابتدائي

إن للعب دور أساس في تنمية مختلف جوانب شخصيات الأطفال، الحسية الحركية و العقلية والوجدانية واللغوية والاجتماعية ... فهو يؤهلهم لاكتساب القدرة على احترام النظام وقوانين الجماعة، كما يدفعهم إلى تبني قيم التعاون والتضامن وضبط النفس والصبر واحترام الآخر...ولقد تعددت التفسيرات التي أعطيت للعب الأطفال بتعدد النظريات والمدارس السيكولوجية التي اهتمت بهذه الممارسة. لذا سنحاول تقديم مقاربة مركزة لهذا الموضوع عبر الإجابة على الأسئلة التالية : ما الذي نقصده باللعب؟ و كيف يسهم اللعب في تنمية جوانب الشخصية عند الطفل؟ وما هي أهم النظريات السيكولوجية التي اهتمت بتفسير اللعب؟ وما علاقة اللعب بالتعلم؟
اللعب هو نشاط جسمي وعقلي ونفسي تلقائي لا يصدر تحت أي إكراه أو ضغط خارجي¹، وهو يعتبر وسيلة أساسية لتنشئة الأطفال وإدماجهم في محيطهم الاجتماعي. فعبر اللعب يستضمر الطفل القوانين والمعايير المتحكمة في إقامة علاقات اجتماعية متوازنة وسليمة مع الآخرين. إن هذه الممارسة تعتبر « وسيلة للتنشئة و إدماج الطفل في بيئته، فاللعب يجعل الطفل فردا مشاركا في الجماعة، ويطور فهمه للغة وللنظام الاجتماعي، كما يمكنه من إدماج مفهوم المعيار بإدراكه أن العلاقة مع الآخرين تحكمها معايير و يجعله مساهما فعالا في سيرورة تعلمه»².
إن مدرسة علم النفس التقليدية لم تعر أي اهتمام باللعب ولم تعطه أي قيمة، فبالنسبة لها يعتبر تسلية فقط وتزجية للوقت. حيث يرى أصحاب هذه المدرسة، كما يؤكد ذلك بياجيه³، أن اللعب خال من المعنى التربوي. كما أن البحث في موضوع اللعب من طرف المربين التقلديين لم ينل ما يستحقه من العناية والاهتمام. ومما لا ريب فيه أن « المربين التقليديين، من رابلي إلى روسو مرورا بمونتنيي و لوك، قد أشاروا إلى أهمية لعب الأطفال، غير أنهم لم يستطيعوا أن يقوموا بأبحاث عميقة في هذا المجال.»4
غير أن الأبحاث المعاصرة، ورغم قلتها، أكدت أهمية اللعب ودوره المحوري في تنمية جميع جوانب الشخصية عند الطفل. فكما ينمي الجوانب الحسية الحركية والعقلية، ينمي كذلك الجوانب الانفعالية والاجتماعية و اللغوية...و لعل تنمية هذه المجالات المؤلفة للشخصية هو الذي يحفز ميولات ومواهب الأطفال نحو التفتق والتفتح، ويمكنهم من القدرة على الخلق و الإبداع.
فعلى المستوى الحركي؛  ينشط اللعب الأجهزة العضوية للجسم ويقوي العضلات و يكسب اللياقة البدنية. وعلى المستوى العقلي؛ يساعد الطفل على إدراك عالمه الخارجي وينمي مهاراته العقلية، ويؤهله للقيام بالاستكشاف و البحث عن المعلومات بنفسه. وعلى المستوى اللغوي؛  تزداد حصيلة الطفل المعرفية واللغوية باكتساب كلمات وتركيبات لغوية جديدة تؤهله أكثر للتواصل والانفتاح.  وعلى المستوى الاجتماعي؛ يتعلم الطفل النظام و يحترم نواميس الجماعة، ويتبنى قيم التعاون و التضامن و التنافس الشريف، وإقامة علاقات اجتماعية متوازنة و فعالة مع الآخرين. أما على المستوى الانفعالي؛  فإن اللعب يدرب الطفل على ضبط النفس و الصبر، والإحساس بشعور الآخرين و العمل على تقديرهم واحترامهم...
ولقد تعددت النظريات التي عملت على تفسير اللعب، حيث أن كل نظرية تفسره ارتباطا بمرجعياتها وأسسها العلمية، وكذا النتائج المتوصل إليها.غير أنه سنتطرق هنا إلى النظريات البارزة في هذا الصدد.
أما نظرية الطاقة الزائدة؛ التي ظهرت في أواخر القرن 19، والتي وضع أسسها الفيلسوف الأنجليزي هربرت سبنسر، تفسر اللعب على أنه صرف لطاقة زائدة عند الطفل. فهذا الأخير وبعد أن يقوم بواجباته وأعماله اليومية تبقى لديه طاقة زائدة يعمل على توظيفها في اللعب. فبالنسبة لهذه النظرية، اللعب هو توظيف واستغلال لطاقة زائدة ومتبقية. إلا أن هذه النظرية تعرضت لانتقادات مهمة، من بينها، عدم إعطاء الأهمية للدور النشط الذي يقوم به اللعب في عملية النمو، كما أنها تغض الطرف عن الظروف الاجتماعية و الاقتصادية و تأثير المحيط في إثارة حيوية الطفل و نشاطه في اتجاه صحيح و إيجابي.
والنظرية التنفيسية؛ أو نظرية مدرسة التحليل النفسي الفرودية ترى أن اللعب هو تعبير رمزي عن رغبات محبطة أو لاشعورية، ممارسته تؤدي إلى إشباع هذه الرغبات و بالتالي تجاوز التوتر و القلق. فبواسطة اللعب مثلا يتغلب الطفل على مخاوفه. «فالطفل الذي يخاف أطباء الأسنان يكثر من الألعاب التي يمثل فيها دور طبيب الأسنان»5. وبهذه الطريقة يتغلب على خوفه بلعب دور الشخص أو الموقف الذي يخيفه. غير أن اقتصار هذه النظرية على مجرد التنفيس لا يكفي لتفسير اللعب.
نظرية الإعداد للحياة؛ رائدها العالم السيكولوجي كارل جروس، الذي يعتبر بأن للعب وظيفة غريزية، كما أنه إعداد للكائن الحي من أجل مواجهة تقلبات المستقبل. فمثلا تطارد القطط أثناء اللعب هو تمرين على مطاردة و اصطياد الفرائس في مستقبل الأيام. أما بالنسبة للإنسان فهو «يحتاج أكثر من غيره إلى اللعب لأن تركيبه الجسمي أكثر تعقيدا وأعماله في المستقبل أكثر أهمية واتساعا»6. غير أن هذه النظرية تعرضت بدورها للنقد، لأن كارل جروس يركز فقط على دور اللعب في تطوير الغرائز دون أن ينتبه إلى أهمية الجوانب الرمزية و التخيلية فيه.
ويعتبر كارل جروس من الباحثين الأوائل الذين اهتموا بدراسة اللعب، فمن خلال تتبعه لألعاب الحيوانات التي يعتبرها ممارسة غريزية، يخلص إلى أن الأطفال بدورهم يلعبون من أجل تطوير وظائف مستقبلية مرتبطة بهم. فاللعب بالدمى بالنسبة للفتيات مثلا، هو إبراز وتطوير لوظيفة /غريزة الأمومة. إلا أن ما أغفله جروس هو الجانب التخيلي و الرمزي في اللعب.
إن التمثل الرمزي والتخيلي للواقع هو الذي يشكل الأهمية الكبيرة للعب الأطفال، وبواسطته يحققون حاجاتهم النفسية دون خضوع لمستلزمات واعتبارات الواقع الاجتماعي، فاللعب الرمزي « في محتواه تفتح و ازدهار للنفس و إدراك للمنى، معارضة له في هذه الحالة للفكر العقلاني المتطبع بالطابع الاجتماعي الذي يكيف النفس إلى الواقع ويعبر عن الحقائق المشتركة »7.
إذن فاللعب كممارسة حسحركية ورمزية يجعل الطفل ينقل الواقع إلى ما يتفق والحاجات المعقدة التي تتطلبها نفسيته. و اللعب كذلك هو جهد متواصل من أجل تجاوز الواقع و إبداع أنشطة جديدة متنوعة. إنه عمل لا ينتهي ورغبة لا نستطيع إيقافها. بكلمة واحدة«لعب أطفالنا هو تعبير، قبل كل شيء، عن تعالي إنساني، بدونه لن يكون الإنسان سوى حيوان كالحيوانات الأخرى»8.
ويبدأ اللعب بشكل جلي وواضح منذ البدايات الأولى للطفولة، فهو يبدأ بالمحاكاة imitation. فالطفل يحاكي نفسه قبل أي شيء آخر، يحاكي نفسه و هو نائم، وهو يأكل، وهو يمد أو يأخذ شيئا  خياليا. بعد ذلك يحاكي الأشخاص الذين يعيش إلى جانبهم، يحاكي والده وهو يقرأ الجريدة أو يحاكي أمه وهي تقوم بأشغال البيت ... إن هذا التصرف الإنساني (المحاكاة) يضيف إلى العالم الحاضر والمعيشي والحقيقي عالما خياليا، إنه عالم الممكنات.
إن الخلط بين الحقيقي والمتخيل، بين الواقعي والرمزي في اللعب يعتبر بالنسبة لجون شاطو ضرورة لإشباع الحاجات وتحقيق الأماني9. فهذا الخلط مستساغ ومقبول بالنسبة للطفل، بل إن هذا الأخير لا يفهم الفرق الذي يفترضه الهزل من الجد. واللعب بالمحاكاة هو وسيلة لفهم ومعرفة تصرفات ووجهات نظر الآخرين. إنه سلاح ضد التمركز حول الذات égocentrisme و إعداد لمراحل طفولية مقبلة .
وحول علاقة اللعب بالتعلم فإننا نلاحظ عند تقديمنا لأنشطة تعلمية باعتماد اللعب أن الأطفال يبدون اهتماما كبيرا ورغبة جامحة فيما يتعلمونه. و لقد «وظفته ماريا منتسوري ضمن طريقتها التعليمية على اعتبار أنه يوفر حرية كبيرة لتنمية فعالية التدريب الحسحركي في عملية اكتساب المعارف»10.و يعمل اللعب كذلك كوسيط تربوي على تفتح شخصية الطفل و تنميتها و بواسطته يتعلم بشكل فعال و يحقق نتائج مهمة .غير أن ذلك لن يتم سوى باعتماد ألعاب تربوية منظمة و مخطط لها . حيث يعتبر دور المدرس أساسيا في هذا الأسلوب من التعلم، و ذلك بدءا باختيار ألعاب لها أهداف تربوية تتناسب و قدرات و حاجات الأطفال ، و توضيح قواعد اللعبة، وترتيب المجموعات، وتحديد الأدوار، و تقديم المساعدة كلما تطلب الموقف ذلك.
إن للعب عدة أهداف ومزايا تربوية، فهو يعمل على إشباع حاجات الأطفال و رغباتهم، كما يحقق لهم توازنهم النفسي والاجتماعي. و بشكل عام فإن اللعب يعمل على تفتح الشخصية و تنميتها من أجل الاكتشاف والخلق و الإبداع.  لذا فإن على الآباء والمربين و المسؤولين، أولا و قبل كل شيء، أن تحصل لديهم اتجاهات و مواقف إيجابية تجاه اللعب و ذلك بهدف تشجيع الناشئة على ممارسته.




الهوامش:
1.أحمد أوزي:المعجم الموسوعي لعلوم التربية. مطبعة النجاح الجديدة،ط2، 2008، ص220.
2.عبد الكريم غريب و آخرون:معجم علوم التربية، سلسلة علوم التربية 10-9 ، مطبعة النجاح الجديدة،ط1 ،1994  ،ص،171.
3.بياجيه جان:علم التربية و سيكولوجية الطفل، الدار العربية للعلوم-بيروت، ترجمة الدكتور عبد العالي الجسماني ، ط1، 1994 ، ص.197 .
4.JEAN CHATEAU .Psychologie de l’enfant Librairie ARMAND ‚ COLIN‚9eme éd.1967‚p131
5.www.mafhoum.com/presse 9/289c33.htm_ 52
7. بياجيه جان.مرجع سابق، ص 199.
8.JEAN CHATEAU.opcit‚p1328
9. JEAN CHATEAU..op‚cit‚p1329

10. عبد الكريم غريب وآخرون.مرجع سابق،ص 171.
.................................
مصدر المقال:
 مصطفى مزياني، اللعب عند الأطفال: مقاربة سيكولوجية، كراسات تربوية، كتاب مشترك: الصديق الصادقي العماري وآخرون، مطبعة بنلفقيه، الرشيدية، المغرب، 2013، ص ص: 85-91.

تعليقات

المشاركات

مجلة كراسات تربوية، العدد الثاني 2016

سياسة النشر في مجلة كراسات تربوية-المغرب

المدرس و نظم العمل في مجال الإرشاد النفسي المدرسي

مجلة كراسات تربوية، العدد الثالث 2018

دعوة للنشر في مجلة كراسات تربوية العلمية المحكمة-المغرب العدد السابع(07) يناير 2022

مجلة كراسات تربوية، العدد السادس-6-فبراير 2021

د. محمد الدريج: ديدكتيك اللغات و اللسانيات التطبيقية -تداخل التخصصات أم تشويش براديكمي-

دواعي اعتماد المقاربة بالكفايات كمدخل للإصلاح البيداغوجي. ذ. الصديق الصادقي العماري

مجلة كراسات تربوية: المواكبة التربوية نحو تأسيس نموذج/منظومة لتجويد التعليم و محاربة الهدر المدرسي

مجلة كراسات تربوية: دورة تكوينية بالرشيدية حول علوم التربية والديداكتيك والتشريع التربوي من 8 أبريل إلى 15 أبريل 2018

المشاركات الشائعة

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم. ذ. الصديق الصادقي العماري

فاعلية الذات وجودة الأداء المهني لدى مربي مراكز حماية الطفولة/د. كوثر الشرادي

د. محمد الدريج: ديدكتيك اللغات و اللسانيات التطبيقية -تداخل التخصصات أم تشويش براديكمي-

هندسة التكوين الأساسي للمدرسين و تمهين التعليم. د. محمد الدريج

مجلة كراسات تربوية: المواكبة التربوية نحو تأسيس نموذج/منظومة لتجويد التعليم و محاربة الهدر المدرسي

مجلة كراسات تربوية، العدد السادس-6-فبراير 2021

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي: علوم التربية والترجمة: الواقع والآفاق. يونيو 2024

النموذج التفاعلي في مجال التوجيه التربوي:أي دور لعناصر المحيط في بناء الاختيار الدراسي والمهني/ذ. مـحمد حابا

مجلة كراسات تربوية، العدد الثاني 2016

تمديد الإعلان عن طلبات النشر في مجلة كراسات تربوية، العدد (11) يونيو 2023

المشاركات الشائعة

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم. ذ. الصديق الصادقي العماري

مجلة كراسات تربوية: المواكبة التربوية نحو تأسيس نموذج/منظومة لتجويد التعليم و محاربة الهدر المدرسي

د. محمد الدريج: ديدكتيك اللغات و اللسانيات التطبيقية -تداخل التخصصات أم تشويش براديكمي-

هندسة التكوين الأساسي للمدرسين و تمهين التعليم. د. محمد الدريج

المدرس و نظم العمل في مجال الإرشاد النفسي المدرسي

فاعلية الذات وجودة الأداء المهني لدى مربي مراكز حماية الطفولة/د. كوثر الشرادي

مجلة كراسات تربوية، العدد السادس-6-فبراير 2021

مجلة كراسات تربوية، العدد الثالث 2018

مجلة كراسات تربوية، العدد الثاني 2016

دواعي اعتماد المقاربة بالكفايات كمدخل للإصلاح البيداغوجي. ذ. الصديق الصادقي العماري

المشاركات الشائعة

مجلة كراسات تربوية، العدد الثاني 2016

سياسة النشر في مجلة كراسات تربوية-المغرب

المدرس و نظم العمل في مجال الإرشاد النفسي المدرسي

مجلة كراسات تربوية، العدد الثالث 2018

دعوة للنشر في مجلة كراسات تربوية العلمية المحكمة-المغرب العدد السابع(07) يناير 2022

مجلة كراسات تربوية، العدد السادس-6-فبراير 2021

د. محمد الدريج: ديدكتيك اللغات و اللسانيات التطبيقية -تداخل التخصصات أم تشويش براديكمي-

دواعي اعتماد المقاربة بالكفايات كمدخل للإصلاح البيداغوجي. ذ. الصديق الصادقي العماري

مجلة كراسات تربوية: المواكبة التربوية نحو تأسيس نموذج/منظومة لتجويد التعليم و محاربة الهدر المدرسي

مجلة كراسات تربوية: دورة تكوينية بالرشيدية حول علوم التربية والديداكتيك والتشريع التربوي من 8 أبريل إلى 15 أبريل 2018