النموذج التفاعلي في مجال التوجيه التربوي:أي دور لعناصر المحيط في بناء الاختيار الدراسي والمهني/ذ. مـحمد حابا


النموذج التفاعلي في مجال التوجيه التربوي:
أي دور لعناصر المحيط في بناء الاختيار الدراسي والمهني

ذ. مـحمد حابا




تمنح المنتديات والملتقيات الإعلامية المنظمة من طرف المتدخلين في مجال الإعلام والمساعدة على التوجيه للمتعلمين وأسرهم فرص التواصل المباشر مع المهنيين بشكل يعينهم في مسار بناء مشاريعهم الدراسية والمهنية. إن من شأن هذه الأنشطة السماح بمزيد من التفاعل المطلوب بين الباحث عن المعلومة والطرف المنتج والمالك لها، وهو الأمر الذي قد يساهم في نقل المتعلم من موقع التلقي السلبي إلى موقع المسؤول عن اختياراته، بما يؤسس لأهمية اعتماد نموذج تفاعلي في مجال التوجيه التربوي.










شكل الاختيار الدراسي والمهني موضوع دراسة واشتغال مجموعة من الحقول المعرفية في العلوم الإنسانية (علم النفس، علم الاجتماع، الاقتصاد...)، بشكل أسهم في تحقيق تراكم معرفي مهم في صيغة نظريات ومقاربات وطرق عمل. فإلى جانب الإسهامات النظرية التي تستند إلى علم النفس والتي تربط الاختيار بعوامل ذاتية خاصة بالفرد، نجد تفسيرات أخرى مرتبطة بعوامل خارجة عن الذات ومتصلة بالمحيط في مختلف تجلياته وامتداداته الاجتماعية والاقتصادية... غير أن الطابع التجزيئي والانتقائي لهذه النماذج التحليلية، واستحضارا للقيمة المضافة للمنظورات التفاعلية، فإن الاشتغال وفق مستوى وسطي من التحليل يتموقع بين النماذج السيكولوجية والنماذج الاقتصادية والاجتماعية سيسمح بتطوير الممارسة في مجال الاختيار الدراسي والمهني، من خلال الانتقال من ممارسة توجيهية قائمة على الجوانب السيكولوجية، إلى توجيه ينبني على الجوانب التربوية[1]، باعتماد مفهوم التجربة الإنسانية وما تتيحه عملية التعلم والتفاعل من إبراز وتنمية مجموعة من فرص وإمكانات التوجيه، من خلال ممارسات بيداغوجية تنمو وتتطور بتقدم المسار الدراسي للتلميذ بهدف إعطاءه الكفايات التي تمكنه من الاختيار والتوجيه طوال حياته المهنية (D. Pelletier, R. Bujold, 1984, p 28) .
ينطلق هذا المنظور التفاعلي في مجال التوجيه التربوي من مركزية المتعلم كفاعل أساسي في اختياراته الدراسية والمهنية، حريص على التوفيق بين مختلف الجوانب الدينامية المتحكمة في سيرورة الاختيار. يولي هذا المنحى أهمية كبرى للتبادلات والتفاعلات التي تتم بين الفرد بإمكاناته وقدراته وميولاته الذاتية من جهة، وبين الوسط بمختلف أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والدراسية من جهة أخرى. ويعتبر أن فهم النوايا والأهداف المستقبلية للشباب مرتبط أساسا بالتركيز على تفاعلاتهم في مجموعات انتمائهم باعتبارها مجالات وفضاءات للتبادلات البينشخصية المتعددة، إذ على هذا المستوى تتدخل السيرورة التي تقود الفرد ليس فقط إلى قبول وضعه بل وإلى التشبت به باعتباره اختيارا خاصا به.
لقد اهتم مجموعة من المختصين في التوجيه بتوصيف هذه العلاقة التفاعلية (Super, Limoges, …)، واعتبروا أن النماء المهني نتاج سيرورة التفاعل بين الشروط البيولوجية للفرد وخصوصياته النفسية والاجتماعية، والتغيرات التي تعرفها شخصيته من جهة، وظروف الوسط وخصوصياته الاجتماعية والاقتصادية والإكراهات التي يمارسها على الفرد من جهة ثانية. وقد سمح هذا المنظور التفاعلي بصياغة مقاربات نظرية للتوجيه والاختيار المهني انبنت على اعتبار أن شخصية الفرد، كنسق مصغر، لا يمكن تصورها إلا ضمن شبكة العلاقات والتفاعلات القائمة والممكنة مع عدة أنساق وسيطة ومع نسق أوسع هو العالم الخارجي، هذه التفاعلات تسمح للفرد بالبحث عن المعنى والمعلومة بما يضمن استمراريته باعتباره جزءا من الوسط/ النسق بمختلف امتداداته[2].
ترى نظرية التفاعلات الجماعية (J. Guichard, M. Huteau, 2001, p 164) أن أفضل طريقة لفهم النماء المهني للفرد هي معرفة الكيفية التي يقوم من خلالها ببناء وتحيين تمثلاته حول ذاته باعتبار الوضعيات التي يتواجد بها. يستند هذا التصور على تراكمات البحث السوسيولوجي خاصة تيار التفاعلية الرمزية الذي يرى أن السلوك الإنساني يتحدد من خلال سيرورة التواصل البينشخصي، وأن الشعور والإحساس بالذات يظهر بفعل التبادلات مع الآخر (الأسرة، الأقران، المدرسين...). وكنتيجة للفعل الجماعي، يعمل الأفراد على تعديل متبادل لأفعالهم وفق أفعال الآخرين سواء التي يتم ادراكها أو انتظارها. فالتفاعلات الشخصية بين الأفراد والجماعة بمختلف امتداداتها تسهم في تكوين مجموعة من الانتظارات والتمثلات والمواقف والتموقعات، بشكل يساعد الفرد على تحديد معنى لذاته من جهة، والفرص المحددة اجتماعيا من جهة أخرى. تمارس هذه التفاعلات تأثيرها على تصرفات وسلوكات الأفراد من خلال ترويج المعاني التي تم تكوينها بشكل جماعي، حيث تمرر الجماعة مختلف المتطلبات والممنوعات المحددة اجتماعيا. وعلى هذا الأساس، لا يمكن توقع مصير المتعلم فقط انطلاقا من انتماءه الاجتماعي، بل إن علاقاته بجماعة الأقران مثلا يمكن أن يكون لها دور محدد في اختياراته.
إن الذات وفق هذا التصور هو المعنى الذي يعطيه الفرد لنفسه من خلال ردود أفعال الآخرين (آباء، أسرة ممتدة، علاقات الجوار، جماعات الأقران، جماعة إثنية، مدرسون...) باعتبارهم مصادر للمعلومات والتغذية الراجعة والدعم. إن التفاعل مع مصادر التأثير الجماعي المختلفة تمكن الفرد من تكوين مجموعة من التمثلات المتغيرة  باستمرار حول الذات والوضعية التي يعيشها، فتصير الذات شعورا متغيرا يستخلصه الفرد في جزء كبير منه من المفعول الرجعي الذي يتلقاه من الآخرين، وتصبح الوضعية الاجتماعية للفرد هي أولا تمثل اجتماعي بالنسبة له، وهذا التمثل عنصر محدد لسلوكه. وعلى هذا الأساس، فالذات والمجتمع والمسار المهني مفاهيم لا تعني نفس الشيء لدى أفراد مختلفين، ولا تعني نفس الشيء لدى الشخص نفسه في لحظات مختلفة من وجوده وفي سياقات تفاعلية مختلفة. وبالتالي فإن دوام واستمرارية التفاعلات المشتركة هو مصدر استقرار مفهوم الذات، وكذا التمثلات الاجتماعية للبنية الاجتماعية.
إحدى امتدادات هذا التحليل في إطار الممارسة المهنية في مجال التوجيه التربوي أن الوظيفة المركزية لهذه المنظومة تتجلى في مساعدة الفرد للتعود على مواجهة الغموض وتوقع المستقبل (D.Permatin, J. Legres, 1988, p 11)، والتوفر على معنى للذات في عالم مليء بالرسائل المتناقضة، بل التوفر على أكثر من "ذات ممكنة" كرصيد احتياطي، واكتساب مرونة التفكير  لتسهيل الانتقال من توجه لآخر كلما ضاق الأفق. إن مهمة التوجيه هي مساعدة الفرد على تكوين عدة صور ممكنة ومترابطة حول ذاته، وتصورها على أنها عدة طرق مختلفة لإثبات الذات، مع ضرورة تنمية صور جديدة لها، وإدماجها ضمن تاريخ ونسق شخصي لصور الذات. ومن هنا ينبغي على الفاعل في مجال التوجيه التربوي حث وتحفيز الفرد على الانخراط في تفاعلات جديدة. إن انخراط الشباب في عالم المقاولة مثلا يمكن أن يصير أمرا سهلا بفعل تفاعلهم مع المصاحبين والمواكبين الكبار الذين يمارسون نشاطا مهنيا. لذلك، فمسألة التوجيه ليست مقتصرة على المهنيين في المجال، ولكنها مرتبطة بأشخاص وجماعات يتفاعل معها الفرد، مما يمنح إمكانية التأسيس لمفهوم التوجيه من طرف الأقران[3].
إن التركيز على أدوار السياقات في مجال بناء الذات يمنح أهمية كبرى للمقاربة البيئية(J.Guichard,M.Huteau,2001,p170)، وذلك بالنظر لضرورة مساعدة الفرد على التوافق مع متغيرات وسط متسم بتحولات غير متوقعة. إن أخذ آفاق التفاعل الجماعاتي بعين الاعتبار في مختلف مقاربات التدخل لمساعدة الفرد، يتطلب من أطر التوجيه العمل على تسهيل هذا التفاعل، والتدخل ليس فقط ليس فقط كعلماء نفس يهتمون بما يحدث في مكاتب الاستشارة وفي الأقسام بل أيضا علماء اجتماع يهتمون بمختلف التحولات التي تقع خارج الوسط المدرسي. هذا الأمر يسمح باستحضار العناصر السياقية المؤثرة في فعل التوجيه، وهو الأمر الذي عالجه العديد من المختصين (Vondracek،Young) من خلال تفسير نمو الاختيارات الشخصية والمهنية بالتركيز على العوامل الخارجية.
ولما كانت خصائص السياق هي التعقيد والترابط والتفاعل والدينامية، فإنه لا يمكن الانتباه إلى النمو المهني للفرد بالاقتصار على نموه المعرفي أو وضعه الاجتماعي لأسرته أو على التحولات السوسيو اقتصادية، بل باستحضار شبكة علاقات مختلف مستويات التفسير، في ارتباط مع الأنشطة التي يقوم بها الفرد، باعتباره فاعلا متحكما في نماءه المهني، يمارس التأثير على وسطه بمختلف مستوياته المباشرة (الأسرة والمدرسة وجماعة الأقران ثم عالم الشغل) وغير المباشرة (القيم والمعتقدات والأحداث التاريخية والثقافة)، يمتلك إمكانية التدخل في كل حين لتغيير مسار الأمور. على أن النسق المصغر المباشر يعد أهم المستويات السياقية الذي اهتمت به مختلف الدراسات في مجال التوجيه التربوي، بالنظر لتأثيره المباشر على الاختيار الدراسي والمهني، فما بين الدعم والتأثير الأسريين على الاختيار ثم مختلف التدخلات المهنية في الوسط المدرسي وتأثيرات الأقران ومختلف التجارب والزيارات المهنية لعالم الشغل تتبلور اختيارات التلاميذ. لذلك فالدور الأساسي الذي ينبغي على الفاعلين في مجال التوجيه التربوي هو تسهيل عبور الشباب والمراهقين بين مختلف مكونات النسق المصغر، لأن هذه السياقات إلى جانب كونها مصادر معلومات بالنسبة للتلميذ فهي أيضا تمارس تأثيرا مباشرا عليه. إن هذا المنظور المنطلق من نظرية الأنساق يهتم بالعلاقة الدينامية التي تجمع الفرد بمحيطه.
ورغم الملاحظات التي يمكن تسجيلها على هذه النماذج، فإنها تحتفظ براهنيتها في معالجة موضوع الاختيار والنماء المهني من خلال استحضار مختلف العناصر الدينامية المتدخلة في المجال، وكذا العلاقات فيما بينها. إن الدور المحوري الموكول للفرد ضمن هذا التأطير النظري، والترابط المتواصل بينه وبين باقي عناصر النسق هو ما تسعى مجموعة من المقاربات إلى أخذه بعين الاعتبار.
مراجع الدراسة:
D.Pelletier, R. Bujold, Pour une approche éducative de l’orientation, Gaëtan Morin éditeur, Canada, 1984.
D.Permatin, J. Legres, Les projets chez les jeunes, Editions EAP, Issy les Moulineaux, 1988.
J.Guichard, M. Huteau, Psychologie de l’orientation, Dunod, Paris, 2001.



[1]  يعتبر الميثاق الوطني للتربية والتكوين أن التوجيه جزء لا يتجزأ من سيرورة التربية والتكوين، بوصفها وظيفة للمواكبة وتيسير النضج والميول وملكات المتعلمين واختياراتهم التربوية والمهنية... المادة 99.
[2]  تندرج في هذا الإطار مختلف المقاربات التي تم إنتاجها في سياقات تربوية غربية بالأساس مثل مقاربة التربية على التوجيه بفرنسا والمقاربة الموجهة بكندا...
[3]  أثبت اعتماد صيغة التثقيف بالنظير نجاعته في تدبير مجموعة من الوضعيات التربوية، مما يشجع على إمكانية اعتماده كمدخل أساسي في مساعدة التلاميذ على الاختيار وبناء مشاريعهم الدراسية والمهنية.
..............................................
مصدر المقال:
ذ. مـحمد حابا، النموذج التفاعلي في مجال التوجيه التربوي: أي دور لعناصر المحيط في بناء الاختيار الدراسي والمهني، مجلة كراسات تربوية، العدد1، مطبعة بنلفقيه، الرشيدية، المغرب، 2014، ص ص: 134-128.

تعليقات

المشاركات

مجلة كراسات تربوية، العدد الثاني 2016

سياسة النشر في مجلة كراسات تربوية-المغرب

المدرس و نظم العمل في مجال الإرشاد النفسي المدرسي

مجلة كراسات تربوية، العدد الثالث 2018

دعوة للنشر في مجلة كراسات تربوية العلمية المحكمة-المغرب العدد السابع(07) يناير 2022

مجلة كراسات تربوية، العدد السادس-6-فبراير 2021

د. محمد الدريج: ديدكتيك اللغات و اللسانيات التطبيقية -تداخل التخصصات أم تشويش براديكمي-

دواعي اعتماد المقاربة بالكفايات كمدخل للإصلاح البيداغوجي. ذ. الصديق الصادقي العماري

مجلة كراسات تربوية: المواكبة التربوية نحو تأسيس نموذج/منظومة لتجويد التعليم و محاربة الهدر المدرسي

مجلة كراسات تربوية: دورة تكوينية بالرشيدية حول علوم التربية والديداكتيك والتشريع التربوي من 8 أبريل إلى 15 أبريل 2018

المشاركات الشائعة

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم. ذ. الصديق الصادقي العماري

فاعلية الذات وجودة الأداء المهني لدى مربي مراكز حماية الطفولة/د. كوثر الشرادي

د. محمد الدريج: ديدكتيك اللغات و اللسانيات التطبيقية -تداخل التخصصات أم تشويش براديكمي-

مجلة كراسات تربوية، العدد السادس-6-فبراير 2021

مجلة كراسات تربوية: المواكبة التربوية نحو تأسيس نموذج/منظومة لتجويد التعليم و محاربة الهدر المدرسي

هندسة التكوين الأساسي للمدرسين و تمهين التعليم. د. محمد الدريج

مجلة كراسات تربوية، العدد التاسع(09) دجنبر 2022، تناقش سوسيولوجيا النظام التعليمي في المغرب

مجلة كراسات تربوية، العدد الثاني 2016

دعوة للمشاركة في كتاب جماعي: علوم التربية والترجمة: الواقع والآفاق. يونيو 2024

المشاركات الشائعة

المقاربة بالكفايات ونظريات التعلم. ذ. الصديق الصادقي العماري

مجلة كراسات تربوية: المواكبة التربوية نحو تأسيس نموذج/منظومة لتجويد التعليم و محاربة الهدر المدرسي

د. محمد الدريج: ديدكتيك اللغات و اللسانيات التطبيقية -تداخل التخصصات أم تشويش براديكمي-

هندسة التكوين الأساسي للمدرسين و تمهين التعليم. د. محمد الدريج

المدرس و نظم العمل في مجال الإرشاد النفسي المدرسي

مجلة كراسات تربوية، العدد السادس-6-فبراير 2021

مجلة كراسات تربوية، العدد الثالث 2018

فاعلية الذات وجودة الأداء المهني لدى مربي مراكز حماية الطفولة/د. كوثر الشرادي

مجلة كراسات تربوية، العدد الثاني 2016

دواعي اعتماد المقاربة بالكفايات كمدخل للإصلاح البيداغوجي. ذ. الصديق الصادقي العماري

المشاركات الشائعة

مجلة كراسات تربوية، العدد الثاني 2016

سياسة النشر في مجلة كراسات تربوية-المغرب

المدرس و نظم العمل في مجال الإرشاد النفسي المدرسي

مجلة كراسات تربوية، العدد الثالث 2018

دعوة للنشر في مجلة كراسات تربوية العلمية المحكمة-المغرب العدد السابع(07) يناير 2022

مجلة كراسات تربوية، العدد السادس-6-فبراير 2021

د. محمد الدريج: ديدكتيك اللغات و اللسانيات التطبيقية -تداخل التخصصات أم تشويش براديكمي-

دواعي اعتماد المقاربة بالكفايات كمدخل للإصلاح البيداغوجي. ذ. الصديق الصادقي العماري

مجلة كراسات تربوية: المواكبة التربوية نحو تأسيس نموذج/منظومة لتجويد التعليم و محاربة الهدر المدرسي

مجلة كراسات تربوية: دورة تكوينية بالرشيدية حول علوم التربية والديداكتيك والتشريع التربوي من 8 أبريل إلى 15 أبريل 2018