الشباب المغربي: من أساليب
التنشئة التربوية إلى العنف ضد الأصول
ـ دراسة ميدانية ـ
سلمى بنسعيد[1]
مقدمة:
في ضوء المساعي الحثيثة، التي تبذلها الدولة المغربية، من أجل إشراك القطاعات الحكومية، وغير الحكومية في مختلف البرامج، والمخططات الوقائية والعلاجية لقضايا الأسرة والطفولة والشباب. يطرح سؤال محوري حول مدى إمكانية الرهان على هذه المؤسسات في مواجهة وتدبر التزايد الكبير والملحوظ من الناحية الكمية والكيفية لظاهرة العنف الأسري.
لقد أصبح المجتمع المغربي منذ مطلع الألفية الثالثة يعاني من انتشار مخاطر أشكال جديدة من العنف والعدوان تختلف عن كل الأشكال التي سبق أن تعرض لها خلال فترة ما بعد الاستقلال. واستنادا على المتابعات الإخبارية لمختلف وسائل الإعلام الوطنية والدولية والتقارير الدورية للمنظمات وجمعيات المجتمع المدني، فإن أبرز أنماط العنف التي تشهدها الحواضر والأرياف المغربية على السواء هي ظاهرة العنف الشبابي التي غدت سلوكا مخيفا ومهددا للأمن الاجتماعي في المغرب.
أولا: الإجراءات المنهجية للدراسة
1- إشكالية الدراسة:
إن إقدام الشاب المغربي على تعنيف أحد والديه قد يثير الاستغراب في بداية الأمر لأن المخيال والعادات المجتمعية المغربية- والعربية بشكل عام-، في مرجعتيها الدينية، والثقافية، تتبرأ من القائم بفعل الاعتداء على والديه، وترفضه رفضا مطلقا وتنظر إليه نظرة دونية.
من هنا وأخذا بعين الاعتبار، أن المجتمع المغربي، لا زال محافظا ومتأثرا بكلا المرجعيتين بخصوص الوالدين، تبدو ظاهرة الاعتداء على الأصول غريبة عن المجتمع المغربي ومقلقة ومستفزة لمشاهدها أو السامع بها. و قد تكون مفهومة إذا كان هذا الفعل اتجاه الآخر من أقران أو أغيار، ولكنها تصبح مثيرة للتساؤل والبحث والفضول العلمي؛ عندما تكون ضحيتها أقرب الناس لهذا الشاب، بالنظر إلى العلاقات العاطفية والأسرية والاجتماعية التي تربطه بوالديه لأنه يعيش معهم وتحت كفالتهم. و لعل ذلك يحث على الاستفسار: هل سبب العنف ضد الأصول ناتج عن خلل في تمثل الشاب لأدوار والديه أم ناتج عن متغيرات خارجية؟ مثل: تناول المخدرات والتأثر بثقافات أخرى ومضامين أخلاقية وقيمية عبر شبكة الأنترنيت ووسائل الإعلام والاتصال الجديدة. أم أن الظاهرة تؤشر على بداية خلل في المنظومة الاجتماعية في بعدها الأخلاقي والثقافي والشعبي؟
إن الأسئلة المطروحة أعلاه، يفرضها الحضور اليومي لظاهرة الاعتداء على الأصول في المغرب، التي تعود وتيرة تصاعدها أو تنازلها، إلى نوعية تمثلات مرتكبيها من الشباب لأدوار الوالدين التربوية. وإذا ما كانت أساليبهم التربوية تخدم حياة الشاب السيكو- اجتماعية أم تعرضه لإحباطات أكثر مما تعرضه له المنظومة المجتمعية.
في هذا الإطار تأتي هذه الورقة، باعتبارها مساهمة علمية تنتمي إلى حقل الدراسات التربوية النفسية، والاجتماعية، وتعود فكرتها في الأصل، إلى بحث أكاديمي، قمنا به في مسلك الماستر حول موضوع "تمثلات الشباب المغربي لأساليب الأم في التنشئة التربوية وعلاقة ذلك بممارستهم للعنف ضد الأصول". ولا يمكن الإقرار بأنه من السهل مقاربة هذا الموضوع لأنه يضعنا أمام تساؤلات مؤرقة ومتداخلة، ترتبط من جهة، بإكراهات التحولات السوسيو- اقتصادية والقيمية، التي يعيشها الشباب المغربي إثر اندراج المجتمع المغربي في مسار النظام الحداثي العالمي، وتدفعهم لاتخاذ العنف والعدوان، ردود أفعال لذلك. ومن جهة أخرى بالدوافع النفسية، والاجتماعية، الدفينة، والكامنة، وراء تخلي الوالدين عن أدوارهما التربوية، في ظل تراجع التنشئة الاجتماعية التي كانت حكرا على الأسرة، والتي لم تتمكن أي مؤسسة اجتماعية أخرى من تعويضها أو ممارستها بنفس الجودة[2]. وبالتالي إن الهدف المحوري من هذه الورقة، لا يعدو أن يكون، محاولة بسيطة، لإخراج قضية العنف ضد الأصول من دائرة المواضيع المحظورة، أو غير المعترف بها، ومقاربتها بشكل علمي ،وفهمها من خلال رصد مكوناتها، وتشخيص أسبابها، وعلاقاتها الداخلية، والخارجية، باعتبارها ظاهرة جديدة، على العالم العربي عامة، والمغاربي بشكل خاص. إضافة إلى تحديد طبيعة وخصائص تمثلات الإبن الشاب المغربي، للأساليب التي نهجت في تربيته وتنشئته من خلال التعرف على آرائه ومواقفه من تلك التربية والتنشئة، وتوضيح العلاقة القائمة بين تمثلاته، واختياره لسلوك التعنيف. وبالتالي فموضوع تمثلات الشباب لأساليب الأم في التنشئة التربوية وعلاقته بالعنف اتجاهها، هو موضوع يحتاج إلى تعميق البحث في جوانبه المختلفة، لأنه يثير العديد من التساؤلات لعل أهمها التساؤل التالي: "ما هي طبيعة تمثلات الشباب المغربي، لأساليب الأم في التنشئة التربوية، والتي تؤدي بهم إلى ممارسة العنف ضد الأصول؟".
و تتفرع عن ذلك، جملة من الأسئلة قمنا بصياغتها على النحو التالي:
- كيف يتمثل الشاب المغربي أساليب الأم في التنشئة التربوية؟
- ما طبيعة هذه الأساليب؟
- إلى أي مدى تؤثر طبيعة هذه الأساليب على الشاب المغربي وتدفعه لتعنيف أمه؟
ومن أجل الوصول إلى نتائج دقيقة، نقترح وضع الفرضيتين التاليتين:
· وجود علاقة سببية بين تمثل الشاب المغربي لأساليب الأم في التنشئة التربوية وتوجهه لاستعمال العنف ضدها.
· كلما كان أسلوب الأم قائما على القسوة أو على الإهمال واللامبالاة كلما توجه الابن الشاب إلى تعنيفها.
2- مفاهيم الدراسة :
· التمثلات الاجتماعية :
يشير التمثل إلى العملية التي يستوعب فيها الذهن المعطيات الخارجية وينظم بها معطيات الواقع بعد أن يحتك بها الفرد[3]. بمعنى أنه تنظيم فردي لحقيقة جماعية، ولكن هذا التنظيم الذاتي أو إعادة البناء ذهنيا لحقيقة اجتماعية، لا يتم اعتباطيا وإنما يستند إلى مرجعية، حيث أن الرموز التي يستند إليها الفرد هي تشكيل لصورة ذهنية حول موضوع أو حدث غائب يستحضره العقل حاليا. وهي في واقع الأمر رموز محددة تاريخيا وثقافيا واجتماعيا[4]. فالتمثل بهذا المعنى، هو عبارة عن موقف يوجه السلوك، ويحدد عددا من الاستجابات، التي يتعين أن يصدرها الفرد كرد مباشر أو غير مباشر، اتجاه مثير داخلي أو خارجي (DOISE Willem, 1989, pp. 243-249).
· الشباب:
تعني لغة كما وردت في القواميس العربية ومنها لسان العرب "لابن منظور": الفتوة والفتاء، بمعنى: الحيوية والقوة والديناميكية (ابن منظور، بدون سنة، صفحة 482)، والمعنى ذاته ورد في قواميس اللغات الأجنبية ، ومنها المعجم اللغوي الانجليزي"OXFORD" حيث تعني: أول الشيء، بمعنى أنه طازج وحيوي (WEHMEIER.S, ASHBY.M, 2000, pp. 1388-1389). أما في معجم "le Robert" الفرنسي نجد فيه أن لفظة الشباب ((Jeunesse تطلق على فترة الحياة الممتدة ما بين الطفولة والنضج (Le Robert, 1999, p. 1227).
تعتبر فترة الشباب، مرحلة من العمر، ذات أهمية قصوى في حياة الفرد والمجتمع، بالرغم من أن دعائم ومكونات الشخصية، توضع وتتحدد في مرحلة الطفولة، حسب الدراسات السيكولوجية،إلا أن هذه الدعائم والمكونات لا تتبلور وتأخذ مسارا واضحا إلا في مرحلة الشباب. هذه المرحلة التي يبرز فيها التفكير المنطقي والمبادرة الفردية وتكوين اتجاهات نحو مختلف المواضيع الاجتماعية لدى الشباب (HADDIYA Elmostafa, 2014, pp. 52-54) .
· أساليب التنشئة التربوية:
ونقصد بها مجموعة السلوكات والأساليب التربوية التي يمارسها الوالدين للتواصل والتعامل مع الابن.
ü أسلوب القسوة و التسلط
ويقوم هذا الأسلوب على فرض سلطة الوالدين على الطفل وإصدار الأوامر اتجاهه باستمرار (مصلح عبد اللطيف، 2004، صفحة 75)، كما يمكن حصره في أسلوب التشدد وفرض كثرة النواهي والممنوعات وضبط تحركات الطفل أو الشاب وملاحقته أينما حل وارتحل .
ü أسلوب الإهمال واللامبالاة
وهو نمط تربوي يتميز ببرودة العلاقات، لأنه غالبا ما يتمركز حول الإهمال وانعدام الاهتمام بشؤون الطفل،فهو أسلوب يخلو من المحبة والإشباع العاطفي، وبالتالي فإن الطفل، لا يحس بالأمن والانتماء، بل يدرك فقط أن والديه يريدان التخلص منه (مصلح عبد اللطيف، 2004، صفحة 76). بل إنه فهو لا يشعر بالوالدين كقوة تربوية موجهة ومرشدة له لأن الأسرة لا تشرف عليه ولا تعير اهتماما إلى حاجاته (مصلح عبد اللطيف، 2004، الصفحات 76-77).
ü أسلوب الحماية والتدليل المبالغ فيه
ويتسم هذا الأسلوب في التربية بمبالغة الوالدين في الرعاية والعناية بالطفل والإفراط في حمايته، فيكون محور اهتمامهما الوحيد (أوزي أحمد، 2002، صفحة 62)، وتتم الاستجابة لكافة طلباته كما لا تترك له فرصة الشعور بالحرمان أو الإحباط، وفي مقابل ذلك لا يتعرض لأي اختبارات أو تجارب في الحياة (مصلح عبد اللطيف، 2004، صفحة 76) وغالبا ما تلتقي طبيعة هذا الأسلوب، بأسلوب التساهل المفرط، الذي يقوم على التدليل والاستجابة لكل طلبات الطفل، وإتاحته فرصة، تحقيق رغباته بالشكل الذي يحلو له، دون أية معايير، أو ضوابط فردية، أو أسرية أو مجتمعية كذلك (أوزي أحمد، 2002، صفحة 63).
ü أسلوب التذبذب في معاملة الطفل
ويقصد به اللاتوازن، في استخدام السلطة والتقلب، والتغير، في التعامل مع الطفل. وهو نمط لا يعرف توافقا بين كلا الوالدين في التصرف والتواصل مع الطفل (مصلح عبد اللطيف، 2004، صفحة 77) حيث إنه لا يقوم على سياسة حازمة وثابتة في التربية، إذ أن سلوك الطفل يمكن أن يثاب عليه حينا،ويعاقب عليه حينا آخر(مصلح عبد اللطيف، 2004، صفحة 78). وبالتالي فإن هذا الأسلوب غالبا ما يتأرجح بين اللين والقسوة.
ü أسلوب التفاهم والحوار
وهو نمط تربوي يتمحور حول معاملة الوالدين للطفل معاملة طيبة تتجلى مؤشراتها في الرفق بالطفل وإعطائه الحنان، والحب، والحرية، في اتخاذ القرار (مصلح عبد اللطيف، 2004، صفحة 78).
· العنف:
من ناحية الاصطلاح اللغوي، نجد في معجم لسان العرب الذي يعرف العنف، بأنه الخرق بالأمر وقلة الرفق به ويقال "اعتنف الشيء " أي أخذه بشدة والتعنيف حسب ابن منظور هو التفريغ واللوم وعنف فلانا معناه لامه بعنف وبشدة وعاتب عليه (ابن منظور، بدون سنة، صفحة 258).
وحسب المعاجم الفلسفية، فالعنف مضاد للرفق ومرادف للشدة والقسوة. والشخص العنيف هو المتصف بالعنف.فكل فعل شديد، يخالف طبيعة الشيء ويكون مفروضا عليه من الخارج فهو بهذا المعنى يكون فعلا عنيفا (أوزي أحمد، 2014، صفحة 17). أما في المعاجم السيكولوجية، فالعنف يأخذ معنى الاستعمال المفرط للقوة، من خلال أي تصرف يؤدي إلى إلحاق الضرر والأذى بالآخرين وقد يكون هذا الأذى جسميا أو نفسيا (أوزي أحمد، 2014، صفحة 12).
بموجب كل هذه التعاريف، يتضح لنا أن العنف هو درجات من القوة يتصرف بها الشخص اتجاه غيره بشكل يصل إلى درجة الخوف والفزع والرعب فهو يستعمل القسوة الحادة بغرض إخضاع غيره لسلطته وهيمنته،وبذلك فهو انتهاك للشخصية أي أنه تعد على الآخر والقيام بسلوك عدواني في حقه (أوزي أحمد، 2014، صفحة 11). وبالتالي فهو في نظر بعض الباحثين، صورة من صور العدوان، يتوفر فيها شرط الظهور ويصدر عن طرف قد يكون فردا أو جماعة أو طبقة اجتماعية أو دولة بهدف استغلال وإخضاع طرف آخر في إطار علاقة قوة غير متكافئة اقتصاديا و سياسيا مما يتسبب في إحداث أضرار مادية ومعنوية أو نفسية لفرد وجماعة أو طبقة اجتماعية (أحمد حسن إبراهيم، 2009، صفحة 16).
3- عينة الدراسة:
إن النموذج الوالدي، الذي قمنا بالاشتغال عليه، في إطار تناولنا للعنف ضد الأصول وهو الأم. فهذا الاختيار، هو قصدي منا أكثر من أنه وليد الصدفة، على اعتبار أن الأم تحظى بقدسية كبيرة، من خلال المرجعية الدينية، والموروث الثقافي، والشعبي، للشباب المغربي. أضف إلى ذلك أنها ترمز للمحبة والحنان، والارتباط الوجداني، والحميمي، الذي يعود إلى العلاقة الأولية التي تجمع الطفل بأمه، في مرحلة الرضاعة، والتي تسمح له بإدراك العالم فيما بعد من خلال علاقته بأمه. لأن فقدان هذه العلاقة، والحرمان منها يخلق لديه في فترة شبابه دوافع غير واعية في الهدم والتدمير بقوة لاسترجاع هذه العلاقة.
إن البحث في ظاهرة العنف ضد الأصول- الأم نموذجا - تطلبت منا من الناحية الإجرائية دراسة ميدانية لعينة قصدية من الشباب المغربي شملت عشرين شابا متواجدين في السجون المغربية (السجن المحلي الزاكي بمدينة سلا نموذجا) أو مراكز الإصلاح والتهذيب(التابعة للسجن المحلي بمدينة سلا)، والذين تمتد أعمارهم من 18 إلى 30 سنة،والمحكوم عليهم بعقوبة سجنية جراء ارتكابهم عنفا لفظيا اتجاه أمهاتهم باستخدام السب والشتم أو عنفا جسديا عن طريق تهديدها بالسلاح الأبيض أو تخريب ممتلكاتها أو اللجوء إلى قتلها.
4- منهج الدراسة و الأدوات المعتمدة
أخذا بعين الاعتبار خصوصيات موضوع البحث، ارتأينا استعمال المنهج الوصفي التحليلي وذلك استجابة لطبيعة المتغيرات المراد دراستها من خلاله. وارتكزت طريقة استعمالنا لهذا المنهج على وصف موضوعي منظم و تحليل مفصل لمضمون ومحتوى ما تم استقراؤه بالمقابلات، وفقا لوحدات تم ترميزها على شكل تيمات كبرى من أجل استخلاص النتائج (MOSCOVICI Serge, 2003, p. 234).
و باستعمالنا للمنهج الوصفي التحليلي، فقد اعتمدنا على أسلوبين:
· أسلوب الوصف: وذلك بالوقوف على الظاهرة كما هي في الواقع ووصفها وصفا دقيقا والتعبير عنها كميا (MOSCOVICI Serge, 2003, p. 233).
· أسلوب التحليل: وذلك بتفسير ظاهرة العنف ضد الأصول من خلال استقرائنا لواقع مرتكبيها، من جوانب متعددة، وصولا إلى التفصيل فيها، من خلال تحليل، و تركيب، الأجزاء المركبة لها، وتفسير المعنى الاجتماعي والسيكولوجي للأحداث وتحليل العلاقات بين الأحداث والعوامل المؤدية للعنف ضد الأصول (MOSCOVICI Serge, 2003, pp. 233-234).
وسعيا منا للالتزام بأسلوب وتقنيات البحث العلمي المتعارف عليها، فقد اخترنا(المنهج الوصفي التحليلي)، وارتأينا أن نستعمل أداة المقابلة وإجراء استجواب شفوي، مع مجموعة من الشباب، الذين مارسوا العنف ضد أصولهم- الأم نموذجا- قصد خلق مناخ علائقي بيني وبينهم،وبناء الثقة معهم للحصول على أكبر عدد من الأجوبة. ومن أجل تحقيق ذلك فقد اعتمدنا مقابلات نصف موجهة، وذلك بإعطاء أسئلة مفتوحة للمبحوث وطرحها، عليه بطريقة متسلسلة مع ترك حرية الإجابة، ومع إمكانية التدخل وطرح أسئلة أخرى كلما تطلب الأمر ذلك.
ثانيا: عرض نتائج الدراسة و مناقشتها
1- الأم عضو مسير للأسرة: نحو فشل العلاقة مع الأم
أ- تفكك الوسط الأسري ودوره في توتر العلاقة مع الأم
يتميز الوسط الأسري للمعتدي على الأم غالبا بالتفكك و التلاشي، حيث أن الأسرة،لا تكون بنية كاملة و متماسكة، وإنما تعرف اختلالات كبيرة على مستوى الأدوار. تسير الأسرة من طرف الأم. فهي سيدة الموقف، تدير شؤون الأسرة،في ظل غياب الأب المادي أو الرمزي. لذلك يرتبط تصور الشاب المعتدي ببنية أسرية حاضنة، خاصة وأن المرأة الأم، هي من يسيرها ويدبر أمورها، والتي من المفترض أن تكون رمزا للحنان والاهتمام. لكن توقعاته هاته لا تتحقق، خاصة عند ظهور أساليب تربوية سلبية، من طرف الأم منها ما يظهر بالصدفة، ومنها ما يتكفل الزمن بإظهاره شيئا فشيئا.
تشكل الأم بالنسبة للشاب القائم بالاعتداء، رمزا للامبالاة والقهر، عوض الرعاية، والاهتمام، والتنشئة التربوية السوية، منذ الصغر إلى بلوغ سن الرشد. حيث لا تتجلى وظيفتها في الحب والعاطفة والتفاهم وخاصة الإشباع العاطفي وإنما تفتقر لذلك وتستبدله بالحرمان والاضطهاد، وتأخذ من العنف المادي والرمزي، مرجعية تؤسس وفقها علاقتها مع الابن، وهذا يرسخ لديه إحساسا بالنبذ، اتجاه نفسه بالدرجة الأولى واتجاه أمه. وفي هذا الصدد، ينبغي الإشارة أن "إشباع حاجة الحب لأي إنسان كان، لا تتم إلا عن طريق علاقاته بالوالدين منذ الولادة، وذلك من خلال إشعاره بالأمن والاستقرار والحب. إن توفير مثل هذا المناخ يساعد على تحقيق ذات الإنسان، وإشعاره بقيمته الشخصية. ولهذا الأمر أهمية كبيرة، في علاقات الطفل الراهنة مع أفراد أسرته وعلاقاته المقبلة أيضا مع محيطه، فيما بعد أفراد أسرته التي يكونها في المستقبل. إن تنمية الطفل لاتجاهات بناءة أو هدامة نحوه ونحو غيره من الناس فيما بعد،يعتمد قبل كل شيء على نوع الاتجاهات، التي يكونها أبويه نحوه" (أوزي أحمد، 2013، صفحة 143).
وانطلاقا من هذا الرأي، يعيش مرتكب العنف ضد الأصول، جحيما حقيقيا على المستوى العلائقي داخل الأسرة، نتيجة تصدع علاقته بالأم، ومعاناته معها بسبب عنفها الرمزي اتجاهه. وقد يدفعه عنف الأم، إلى أن يقوم بدور الأب وتعويض غيابه، بشكل قهري يفوق طاقاته الجسدية والنفسية.وأمام عزوف الأم عن مواجهة متطلبات الوضعية الاقتصادية، التي يكون سببها الرئيسي تملص الأب، من القيام بدوره في هذا الجانب، تلقي بدورها المسؤولية الكبرى على عاتق الابن، فيصبح في مقاربة مقارنتية مع الأب، تضعه فيها الأم بالرغم من جهوده الجبارة من أجل إرضائها، والتي لا تتناسب أبدا مع سنه المبكر أو مستوى إدراكه المعرفي للحياة. ومن هنا يسقط الشاب في فوهة الاغتراب والانتساب، جراء إهانات الأم المتواصلة ونظرتها التحقيرية له. ولذلك تكون الأم الطرف الآخر الأناني، الذي يكتفي بالإهانة، والاستهزاء، والتبخيس، من قيمة الابن، والطعن في رجولته، جراء أول نزاع أو اختلاف معها في الرؤية أو الرأي.
ب- التصرفات العدوانية للابن: انعكاس لأساليب التنشئة التربوية غير الصحيحة
يشهد المسار البيوغرافي، للقائم بالاعتداء على الأصول، أحداثا مؤلمة حيث مارست الأم أسلوبها الخاص في التعامل معه. فبسبب تشدد الأم أحيانا وإهمالها أحيانا أخرى، تتكون لديه تصورات عن شخصية الأم، وعن أسلوبها التربوي الذي تستعمله. وبالتالي سلوك الشباب العنيف وتصرفاتهم العدوانية هي نتاج طبيعي، لأساليب الأم في تربيتهم و التعامل معهم. فإلى أي حد يستطيع كل شاب تجميع تمثلاته واستحضارها واختيار العنف كرد فعل قصدي أو غير قصدي اتجاه أمه؟
يتعرض الابن الشاب، لأساليب تربوية من أمه يعتبرها سلبية وفاشلة، لا تصلح أن تمارس، في علاقة خاصة وحميمية، كالتي تجمع بين الأم وابنها. فقد تعامل الأم ابنها بثلاثة أساليب أساسية: أسلوب التذبذب وأسلوب الإهمال واللامبالاة وأسلوب التسلط والقسوة.
·أسلوب التذبذب والسقوط في الإهانة والإقصاء
في ظل انشغال الأم بطريقة مفاجئة، بأداء أدوار ومهام يعتبرها وعي المجتمع المغربي من اختصاص الرجل الأب، تتغير نظرة الأم لابنها، وتتحول تصرفاتها بشكل جذري، مما ينتج عنه تغير كذلك في أساليبها التربوية. فالأم التي كانت في الطفولة مصدرا للحب والعطاء، تضحى عند أول أزمة مادية تسبب فيها الأب،قاسية مع ابنها وتطالبه بتضحيات كبرى، يتخلى فيها عن حقوقه الأساسية، ويخدم حاجات الأسرة، ويسعى لضمانها، بطرق متعبة ومرهقة بالنسبة لجسمه ونفسيته.
إن قضاء مجموعة من الشباب، من عينة هذه الدراسة، طفولة متوازنة، من حيث العلاقة مع الأم، وانتقالهم فجأة، بدون سابق إنذار أو انتباه لعلاقة مغايرة معها يسودها الإذلال والطعن في الرجولة والتبخيس من القيمة، يؤدى بهم إلى التيه والإحساس، بالإهانة والإقصاء. "إن التذبذب في أساليب الأم التربوية وتأرجحها بين اللين والقسوة، يرهق الابن الشاب يتسبب له في قلق شديد يؤثر كثيرا على إدراكاته للأم وعلى تصوره لها. لأن أسلوب التذبذب في المعاملة يحدث تناقضا كبيرا لدى الطفل، وهنا لا يستطيع أن يتمثل المعايير والقيم الاجتماعية بشكل سوي. كما أن الأسلوب المتناقض في التربية يخلق آثارا سلبية في شخصيته نظرا لانعدام التوافق، في اختيار خطة موحدة لتربية الطفل، وذلك قد يؤدي إلى ظهور اضطرابات نفسية، قد لا تؤهل الطفل للتوافق مستقبليا واكتساب أساليب السلوك السوي."[5]
· أسلوب الإهمال والسقوط في أزمة الوصم
عندما لا تكون الأم نموذجا للرعاية، ومصدرا للإحساس بالأمن و الطمأنينة. ولا تبالي بأبنائها لدواعي اقتصادية، يراها الابن أسبابا واهية ويمكن تجاوزها، لا تشكل الأم آنذاك بالنسبة للابن الشاب حضورا ،خاصة وإن كان غيابها ولامبالاتها به ترتبط باستجابتها لمثيرات أخرى مغرية يعتبرها كل من المجتمع والابن منحرفة، ولا تحترم الأخلاق والدين مما يؤدى به إلى السقوط في أزمة التخلي. فاختيار الأم الاشتغال في مهن رخيصة "العمل الجنسي مثلا" يدفع الابن إلى تبخيس قيمتها من جهة واحتقارها. وما يزيد نظرته الدونية لها أكثر، أمام اهتمامها الكبير، بمهنتها وإهمالها له في المقابل، مما يسفر عن جروحات نفسية، و اجتماعية كبيرة، ويؤدي إلى اهتزاز صورة المرأة عنده بصفة عامة، وصورة الأم بالتحديد، ومن جهة أخرى، نظرا لغياب الأب الذي يقدم له القدوة المثال و يفرض الانضباط على الزوجة،يقع شرخ كبير في النمو النفسي للابن غالبا ما يعبر عنه، في شهاداته بالفقر العاطفي، والهوة السيكولوجية، التي يحس بها حتى ما بعد تعنيفه لأمه.ومن هنا يصبح الشارع هو الأب والأم الحاضنين، إلا أن مجتمع الشارع يكون أكثر قسوة من إهمال الأم.
· أسلوب التسلط والسقوط في الاضطهاد
من خلال شهادات المبحوثين في هذه الدراسة، تمثل الأم كذلك أمومة معادية ومتشددة، تتمثل في إصدار الأوامر، والضبط، والمراقبة المرضية، لكونها تلجأ إلى بسط نفوذها، والهيمنة بشكل كلي على أبنائها. وبالتالي لا تكون الأم مثال للعطف والحنان. و إنما مصدرا للعقاب النفسي والجسدي، تمارس على الابن قهرا كبيرا، يترك بدوره ندوبا على بنيته النفسية، وهذا ما ظهر لنا أثناء المقابلات،حيث اتضح أن المستجوبين، يقومون بأفعال وسلوكات قهرية، كتكرار كلمات معينة، لا تنم بأي صلة لأسئلة المقابلة، أو حك أجسامهم كثيرا إلا حدود سيلانها بالدم. إن مثل هذه الأفعال والسلوكات قد تكون دليلا على تعرض الابن الشاب لمدة زمنية طويلة، لاضطهاد نفسي كبير. إن القهر الذي يتعرض له الابن من طرف الأم يجعله لا يحس بذاته. لأنه يشعر أن أمه استحوذت عليه وتملكت تفاصيل حياته الحميمية، وتحبس تصرفاته، في دائرة الضبط والقهر الضيقة.
وبالتالي تعتبر ديكتاتورية الأم عاملا أساسيا في التفاعل السلبي بينها وبين الابن. "فبدون اعتماد مفهوم التفاعل تصبح العلاقة أحادية الاتجاه" (حدية مصطفى، 2004، صفحة 9). إن جفاء الأم يجعلها تؤمن بطريقة واحدة ووحيدة في تربية أبنائها، وهي العقاب الجسدي. فالضرب والعنف الجسدي بطرق متنوعة تيمة مهيمنة على تمثلات الشباب المعنف(مع كسر النون) للأم. وعليه يتضح أن الأم عنصر أساسي بالأسرة، مهمته التعذيب والتهكم في حالة عدم الرضوخ للأوامر.
2- استراتيجيات الابن الشاب لتجاوز فشل العلاقة مع الأم
بسبب فشل العلاقة التربوية بين الأم والابن،ونظرا لتمثلاته وموقفه السلبي من أمه، قد يتوجه الابن إلى عوالم أخرى يجعل منها ملاذا للتخلص من معاناته إلى حين بلوغه درجة تعنيف الأم، يختارها كمجال جديد لإعادة تدبير علاقات من نوع آخر، كان يطمح أن يجدها في الأم .
· الإدمان: رد فعل لتناسي إذلال الأم
الإدمان بالنسبة للابن العنيف، اتجاه أمه بمثابة نسيان لتجربة إذلالها له منذ الطفولة. فقد يحاول ابتكار وإبداع حل مؤقت، لا يبعده عن الأم بشكل ملموس وواقعي، لأن حاجاته إليها تظل راسخة تعيده دائما إلى مكان وجودها، وإنما هو حل يبعده عنها بشكل تجريدي. فتكون نشوة الإدمان كفيلة بهذا الأمر، حيث أن الحبوب المهلوسة، أو الكحول هي مخدرات تساعد الابن الشاب، على التماهي مع الأم في الخيال، وخاصة في لحظات الهيجان. ونظرا لانعدام الحوار والتواصل مع الأم، يحاول الابن تحقيقه معها خلال لحظات تناول جرعته. لقد أشارت دراسة علمية في الموضوع "أن المراهق ينخرط في جماعات الإدمان حيث يجد نمطا للحياة وعلاقات اجتماعية وأحيانا القيادة والتي طالما يبحث عنها في الأسرة ولا يجدها. فالإدمان يمكنه من التنشئة التي لم يجدها بعد. فمن خلال انتمائه لجماعات الإدمان فإنه يحدد دورا اجتماعيا خاصا به" (أوزي أحمد، 2014، الصفحات 115-118).
· العلاقات الجنسية: رد فعل لتحقيق الهوية الذكورية
تبين لنا من خلال هذه الدراسة أن مرتكب العنف ضد الأصول يعيش فراغا وجدانيا ويعاني إحباطا معنويا، لأن أمه لطالما كانت سببا في شكه في رجولته ،من خلال سبه بانعدام الرجولة. وهو أمر أدى إلى سقوط بعض المبحوثين بشكل قهري في سيرورة التقصير الذاتي والدونية وتسبب لهم في أزمة هوياتية، ولدت لديهم تساؤلات اضطهادية حول هويتهم. فسؤال الذات بعبارة "هل أنا رجل" و دخول متاهات البحث عن المعنى الحقيقي للرجولة، خاصة في مجتمع كالمجتمع المغربي، الذي يفيئ بين الرجولة والأنوثة، ويفهمهما في قوالب محددة يضعها المجتمع بنفسه، تغدو الهوية بهذا المعنى، انعكاسا على المستوى الفردي للقيم المعمول بها في المجتمع. "إنها حصيلة و ترجمة لما يمكن أن نسميه مجتمع الإجماع(Consensus) أي مجتمع أفراد يتقاسمون نفس المعايير والقيم(BELLARABI Youssef, 2008, pp. 77-79). فالجرح الذي يصاب به الشاب في أثمن شيء يملكه وهو فحولته غالبا ما تدفعه لعالم الخليلات وربط علاقات جنسية كثيرة، قصد إشباع العاطفة والحصول على الاهتمام والرعاية النفسية من جهة، ومن جهة ثانية تأكيدا للرجولة، وشرفا وجب إثباته لتحقيق اعتراف الأم.
· الجنوح رد فعل لتحقيق الاعتراف
لم يأخذ جنوح بعض الشباب، من أفراد العينة المدروسة، طابع التمرد أو تحقيق لذة ما، بقدر ما كان وسيلة لاكتسابهم رضى الأم واستعادتها. فارتماء البعض في أنشطة انحرافية كالسرقة،يجعلهم يظنون أنه سيكسبهم قوة مادية لإعادة بناء العلاقة مع الأم، لأنهم استوعبوا أن مبدأ الربح الكثير هو ما سيرجع الأم إلى أحضان ابنها. لذلك لجوء بعضهم لأعمال السرقة بمثابة تعويض لإهمال الأم. وكأن الابن الشاب يقول لأمه، يكفيك أن تهتمي بي عاطفيا، واجتماعيا، وأنا سأهتم بك ماديا. كما قد تكون أعمال السرقة كذلك، وسيلة من وسائل إثبات الشطارة، والذكاء اللذان، لم تعرهما الأم اهتماما من قبل. إن اللامبالاة التي يتعرض لها الابن، تجعل منه في بحث متواصل عن سبل لاسترجاع اهتمام الأم وإثبات الذات وتحقيق اعتراف الأم. فباستحواذ الشاب على ضحاياه، يريد عقله الباطن الاستحواذ وتملك الأم للأبد مقابل ما يجنيه[6]. تصير السرقة سلوكا مرضيا لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة لهذه الفئة من الشباب. حيث يدرك الابن أن اهتمام الأم وحضورها رهين بتصرفاته الجانحة. فالأم لا تنتظر منه سوى الدخول في أنشطة جانحة، تجلب المال الوفير لها. أي أن العلاقة بين الأم والابن، تضحى مشروطة بالأخذ والعطاء المتبادلين.
3- الصدمة الفجائية و ضرورة الانتقام
يتمحور لجوء الابن الشاب، إلى تعنيف الأم حول وقوع حدث معين، يساهم بشكل أو بآخر في تفجير طاقاته العدوانية اتجاهها. يكون الحدث الكامن وراء هذا التفجير بمثابة الصدمة غير المتوقعة. حيث يعيش المبحوثون صدمة كبيرة، إلى حدود إجراء المقابلة معهم، بل إنهم لم يستوعبوا ذلك وتساءلوا عن حقيقتها أو بطلانها.
إن الحدث المفجر، يؤثر بشكل كبير على صورة الأم لدى هؤلاء الشباب أكثر، ولعله مثير قوي، يسترجعون من خلاله كل تجاربهم المؤلمة الماضية مع الأم، أو التي كانت سببا فيها. فالواقعة الصدمة، تشكل عودة للابن الشاب إلى كافة التجارب المخزونة،في عقله والتي ارتبطت بالأم كشخص أو بأسلوبها السلبي في تنشئته. فإدراكهم الحسي للصدمة، يجر ذهنه وبطريقة أوتوماتيكية إلى مجمل التصورات السلبية، التي كونها سابقا عن العلاقة مع الأم، منذ الطفولة إلى بلوغه سن الرشد. إن كل ما تم تسجيله حول الأم يتم استرجاعه في لحظة الصدمة التي تعد جارحة ومؤلمة،وجرحها العميق، هذا يزيد من حدة التمثلات السلبية للأم، ويشعل الميولات العدوانية اتجاهها، ويؤكد أنه ليست هناك وسيلة للتخلص من الألم غير تدمير الأم.
وبالتالي تأخذ الصدمة بالنسبة للابن الشاب طابع الغدر،لأن ما فعلته الأم لا يتمكن الابن من غفرانه، باعتقاده أنه خارج عن المعتاد، وعن طبيعة وقانون الأمومة. إن تكلفة الصدمة غالية الثمن، وتعتبر طعنة موجهة لسيكولوجية الابن الشاب مباشرة، تدخله في لحظات تصبح الحيرة عنوانا لها، ويظل سؤاله عن ما فعلته الأم أمرا مرهقا يؤرقه. فاكتشافه مثلا: أن الأم تمارس الجنس مع الأقارب(الأعمام)، أو تقوم بتزوير وثائق تثبت الحقوق الشرعية للابن في الإرث، أو مساهمتها في دفع بناتها و تشجيعهم على ممارسة العمل الجنسي، كل ذلك يحسس الابن الشاب بهدر وجودي كبير، وبانعدام مفهوم الثقة. مما يسقطه في الإحساس بالغدر والتيه ويرسخ لديه التمثلات السلبية التي كونها عن الأم منذ الصغر.
وبالتالي الحاجة إلى الانتقام للذات، تقوده إلى التخطيط والتفكير في طرق تشفي غليله، وتمحي آثار سوء تعامل الأم معه. تدفع صدمة الغدر الابن الشاب إلى التفكير في ضرورة الانتقام. ونستنتج في هذا الجانب أن توجه المبحوثين من الشباب، لتعنيف الأم بطرق تختلف في الشكل، وتتشابه من حيث المضمون والسعي إلى تدميرها، يعد مؤشرا دالا على الرغبة في وضع نهاية وحد لأساليبها السلبية. تستحوذ على الشباب القائم بالاعتداء، رغبة جامحة في تدمير الأم وسلبها كل ما تملك، انتقاما لكل ما شهدوه من قسوة منها.
تساهم عملية تعنيف الأم في تمكين الابن الشاب من تمرير خطاب مباشر، مفاده أنها لم تقم بدورها على الوجه الأمثل، بل أساءت اختيار أسلوب التنشئة التربوية، كما أراده الابن وكما تمثله أن يكون.فمروره إلى الفعل هو خطاب حركي اتجاه وضعية، لا يمكنه أن يتحملها، ولا يسعه التكلم عنها، وتبليغ فحواها باللغة. قيامه بالاعتداء استراتيجية يضعها لكي يسمع من قبل محيطه. فعنفه هذا حوار مع الآخر-الأم- يحاول انتزاع الاعتراف بوجوده منها.من هنا تتعمق رغبته في الانتقام منها. ومن ثم تصبح عملية العنف تطبيقا مستعجلا يستثمر فيه الابن الشاب،تمثلاته حول أساليب أمه السلبية في تنشئته التربوية .
على سبيل الختم
ومجمل القول، إن ظاهرة العنف ضد الأصول هي ظاهرة معقدة، تتداخل فيها عوامل كثيرة ومتعددة، تشمل الجوانب الاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية، كما أنها ظاهرة في ارتفاع متواصل، من حيث الانتشار والآثار المخاطر. وأمام غياب إحصائيات، رسمية دقيقة حول الظاهرة. وانطلاقا مما استطعنا الاطلاع عليه، من خلال معاينة لبعض ما ينشر من أخبار المحاكم، فإن تدني الوضع الاقتصادي، للأسر يشكل أحد أهم عوامل انتشار هذه الظاهرة، علما أن القضايا الرائجة في المحاكم، لا تعكس حجم الاعتداءات الموجهة ضد الأصول، لأن الموضوع ما زال يندرج في المغرب، ضمن الطابوهات، والقضايا المسكوت عنها، ويحاط في الغالب بنوع من التكتم، من طرف الأسر بعينها لاعتبارات اجتماعية أساسا.
ووعيا منا بأن المعرفة نسبية، وأن الدراسات هي سعي متواصل نحو استكمال فهم الظاهرة وتبسيط جوانبها، فإن هذه الورقة، ما هي إلا أرضية لدراسات أكثر عمقا، حول قضية العنف ضد الأصول. غير أن ذلك لا يمنع من الوقوف على مجموعة من الملاحظات التي نعتبرها كفيلة بحث المسؤولين لإيلاء مزيد من العناية بالأسرة والطفولة والشباب.
إننا نرى أن الجانب التشريعي، والقانوني، الذي يخص جريمة العنف ضد الأصول، يعرف قصورا فيما يخص مستوى فصول ومواد القانون الجنائي. فالمنظومة التشريعية المتعلقة بالأسرة، تتطلب مراجعة وتستدعي استعانة المشرع، بخبرة الأخصائي النفسي، والتربوي، حين يضع النصوص والمواد القانونية. إضافة إلى أن قضية العنف ضد الأصول، لا تعيرها الإعلانات والالتزامات الدولية، الخاصة بحقوق الطفل والشباب، والمراهقين، أي اهتمام. أضف إلى ذلك أن المؤسسات القضائية، والسجنية، والتربوية، تفتقر لاختصاصات تهتم بالعلاقات الأسرية، والتي من شأنها تتبع محاكمات الشباب المعتدي على الأصول. أما بالنسبة للمجتمع المدني ووسائل الإعلام، فهي تتناسى دورها في التوعية، بمخاطر ظاهرة الاعتداء على الأصول.
إن ما نرمي إليه من خلال هذه الورقة، هو تحسيس وسائل الإعلام، والمجتمع المدني، والمؤسسات القضائية، ومراكز البحث العلمي، بدورها الكبير في تناولها للموضوع ، ولفت انتباهها إلى أنها تقتصر على وصف وقائع ظاهرة العنف ضد الأصول، وتكتفي بالاستماع فقط للطرف المعنف(مع فتح النون) مع الحكم مسبقا، على من ارتكب العنف، دون تأمل الأسباب والوقوف على تشخيصها وتحليلها، وتوليد على إثرها أسئلة جوهرية، تفتح مجالا للبحث في ظاهرة العنف ضد الأصول، من زوايا ورؤى أخرى.لذلك فالمطلوب في كل حين، هو المرافقة العلمية والنقدية، لمثل هذه الظواهر السلوكية الجديدة، لاكتشاف أبعادها وتردداتها، دونما إنكارها أو التغافل عنها أو تناولها مناسباتيا.
بيبليوغرافيا
-إبراهيم حسن أحمد،ʺ العنف من الطبيعة إلى الثقافة :دراسة أفقيةʺ، دار النايا للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 2009.
-ابن منظور، ʺلسان العربʺ، بيروت، دار صادر، ب. ت.
-أوزي أحمد، ʺالطفل و العلاقات الأسريةʺ، منشورات مجلة علوم التربية، المغرب، 2002.
-أوزي أحمد، ʺسيكولوجية الطفل: نظريات النمو النفسيʺ، منشورات مجلة علوم التربية، المغرب، ط2، 2013.
-أوزي أحمد، ʺسيكولوجية العنف: عنف المؤسسة ومأسسة العنفʺ، منشورات مجلة علوم التربية، ط1، 2014.
- حدية مصطفى، ʺقضايا في علم النفس الاجتماعيʺ، منشورات المجلة المغربية، 2004.
-مصلح عبد اللطيف، ʺمشاكل الوسط الأسري و علاقتها بانحراف الأحداث في المجتمع المغربيʺ، دار أبي رقراق للطباعة و النشر، ط1، 2004.
-BELLARABI Youssef (2008): "Insécurité et delinquance juvénile", collection criminologie .
-BELLARABI Youssef (2007): "Maroc drogue,delinquance,criminalité, collection criminologie.
-DOISE Willem (1989): "Attitudes et representations sociales", In "les representation sociales" sous la direction de Denise JODELET, collection de "Sociologie d'aujourd'hui", Paris, PUF, 1ere edition, 1989.
-FPRGET Jean- Marie (2010): "Les violences des adolescents sont les symtomes de la logique du monde actuel", Bruxelles, Fabert.
-HADDIYA Elmostafa (2014): "Jeunesse,education et changement social", Imprimerie Rabat Net .
- Le Robert (1999):"Dictionnaire de la langue francaise".
-MOSCOVICI Serge (2003): "Les methodes des sciences humaines",France, PUF.
-OUELLET.P,BOUCHARD.H,ELZAIM.A (1994):" La representation des actes de perception: le cas de paraitre", Cahier de praxematique.
-SENON Jean-Louis, LOPEZ Gerard, CARIO Robert (2008): "Psycho criminologie", Paris, Dunod
-WEHMEIER.S, ASHBY.M (2000): "Oxford Advanced Learner's Dictionary".
[1]طالبة باحثة بسلك الدكتوراه، كلية علوم التربية(المغرب)
[2]- إن الأسرة في المجتمع المغربي ظلت على مر التاريخ مؤطرا أساسيا لنظام العلاقات الاجتماعية وإعادة ترتيب وتركيب وتنظيم قيم وأنظمة القرابة. وبالتالي فهي مؤسسة اجتماعية اختصاصها الأول والأخير هو التنشئة وإعطاء لمكوناتها وأطرافها أدوارا تربوية تنشيئية.لكن الملاحظ أن البنية الأسرية كذلك لم تسلم من هذه التغيرات المجتمعية وضغوطاتها، فأصبحت تعيش تحولات عديدة على مستوى الأدوار و الوظيفة. فأول تحول مس بها هو الانتقال من الأسرة الممتدة إلى النووية مما أثر على بنية الأسرة وأدى إلى تراجع مركزيتها في تمرير القيم والمبادئ وتنظيم العلاقات. وأصبحت تشاطر مؤسسة الأسرة في هذه المهام مؤسسات أخرى كالمدرسة ووسائل الإعلام والشارع وجماعة الأقران والمجتمع المدني،وتراجعت التنشئة الاجتماعية التي كانت حكرا على الأسرة والتي لم تتمكن أي مؤسسة أخرى من تعويضها أو ممارستها بنفس الجودة.
[3]OUELLET.P,BOUCHARD.H,ELZAIM.A, 1994, pp. 135-156
[4]OUELLET.P,BOUCHARD.H,ELZAIM.A, 1994, pp. 135-156
[5]- فيما يتعلق بالآثار السيكولوجية لتذبذب الأساليب التربوية على الطفل أنظر :
- مصلح عبد اللطيف: "مشاكل الوسط الأسري و علاقتها بانحراف الأحداث في المجتمع المغربي"، دار أبي رقراق للطباعة و النشر، الطبعة الأولى، 2004 .
- أوزي أحمد: "سيكولوجية الطفل،نظريات النمو النفسي"، منشورات مجلة علوم التربية، الطبعة الثالثة، 2013 .
[6]السرقة هي جنوح مسيطر ومهيمن يقوم على الاستحواذ أي امتلاك أي شيء بغير حق.هذه الرغبة في الاستحواذ لدى بعض الجانحين يغديها شعورهم بالحرمان والخوف وعدم الإحساس بالأمن.فمن خلال السطو على ما يملكه الآخرون يحاول من خلالها الجانح استعادة شعوره بالأمن الذي لم يتاح له داخل الأسرة والمجتمع.ويرتبط سلوك السرقة بخلل عاطفي بالأبوين أو أحدهما وعندما يفقدهما الفرد عندما كان صغيرا سواء بطريقة واقعية أو رمزي فإنه يحاول الاستعاضة بشيء كبديل لم فقده من الوالدين.للتوسع أكثر في جنوح السرقة أنظر:
- El khazraji, A :" La signification du vol chez le jeune délinquant marocain" , BD des nations unies , 2006.
......................................
المصدر:
سلمى بنسعيد، الشباب المغربي: من أساليب التنشئة التربوية إلى العنف ضد الأصول ـ دراسة ميدانيةـ، مجلة كراسات تربوية، العدد الخامس، مطبعة شمس برنت، سلا، المغرب، ص ص 81-100.
.......................................
مجلة كراسات تربوية مجلة محكمة ورقية تعنى بقضايا التربية والتكوين
majala.korasat@gmail.com
212664906365+
https://korasate.blogspot.com/
تعليقات
إرسال تعليق